سورة القصص - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} السرمد: الدائم، والنسبة إليه سرمدى.
والآية وما بعدها، استعراض لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وإحسانه إلى خلقه، وفضله عليهم، ورحمته بهم.. فلو شاء سبحانه أن يجعل الليل قائما على هذه الأرض، لا يعقبه نهار أبدا، لاستولى الظلام على هذا الكوكب، وعلى من فيه وما فيه، ولما كان لأحد أن يغير هذا الوضع القائم أبدا.
وفي قوله تعالى: {أَفَلا تَسْمَعُونَ} إشارة إلى أن الحاسة العاملة في الإنسان، عند الظلام، هى حاسة السمع، حيث يبطل عمل البصر، ويتحول المجال الحسى للإنسان كله، إلى أذن تسمع!.. فالناس في عالم الظلام، تتجمع حواسهم في سمعهم.. ومع هذا، فإن هؤلاء المشركين لا يسمعون، حتى حين يكون السمع هو الوسيلة الوحيدة للإنسان في اتصاله بالحياة..!
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}.
وكما في قدرة اللّه سبحانه، أن يحبس الليل، فلا يتحول عن مكانه من الأرض، كذلك في قدرته جل شأنه أن يجعل من النهار سلطانا قائما على الأرض لا يتحول عنها أبدا، ولا يجد الناس- ولا الكائنات الحية- هذا الليل الذي يلف الوجود بردائه، ويريح الكائنات على صدره.
وقوله تعالى: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} إشارة إلى أن حاسة البصر في هذا النور الدائم الذي لا ينقطع أبدا، تكون هي الأداة العاملة في الإنسان.. ومع هذا، فإن المشركين، لا يبصرون في هذا النور الغامر، الساطع، الدائم.
قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هو تعقيب على الآيتين السابقتين، ورد على ما سئل عنه المشركون، وأعياهم الجواب عنه.
فاللّه سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الليل سرمدا، أو النهار سرمدا، بل جعل الليل والنهار، ووصل بعضهما ببعض، ولم يجعل لأحدهما وجودا بغير الآخر.. وجعل ذلك رحمة منه سبحانه، بعباده، وإحسانا إليهم.
وقوله تعالى: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} الضمير في {فيه} يعود إلى الليل. وفي ذلك إشارة إلى أن الليل- وإن كان ظلاما- فإنه يحمل معه السكن، والهدوء والاستقرار، ولراحة، بعد عمل النهار.
والضمير في قوله تعالى: {مِنْ فَضْلِهِ} يعود إلى لفظ الجلالة، أي من فضل اللّه.
والابتغاء من فضل اللّه، يكون في كل وقت، في النهار، وفي الليل. ولهذا لم يقيّد بظرف، كما قيّد السّكن.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} هو تذكير بقوله تعالى في مطلع الآيات السابقة: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الآية: 62).. وبهذا يكون ما بين هاتين الآيتين واقعا في حيز التهديد للمشركين، وسؤالهم يوم القيامة عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون اللّه.. وهو سؤال تعجيز، يراد به وضعهم موضع الاتهام، وما يلقون فيه من تعنيف وتأنيب.
وفي تصدير الآيات بهذا السؤال التعجيزي، ثم ختامها به- في هذا ما يشير إلى أهمية هذه القضية، التي جاءت الآيات للفصل فيها، وهي قضية التوحيد باللّه! قوله تعالى: {وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} نزعنا: أي أخرجنا من كل أمة شهيدا، وهو الرسول المرسل إليهم.
كما يقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء] وقوله تعالى: {فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أي هاتوا حجتكم، ودليكم على دينكم الذي تدينون به.
وقوله تعالى: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي فجاء كل إنسان ببرهانه وحجته، على دينه الذي يدين به، والإله الذي يعبده،:
وهنا ظهر الحق، وزهق الباطل.. فأما من كانوا يعبدون اللّه، ويؤمنون برسل اللّه وكتبه، فقد جاءوا بالبرهان المبين، على أنهم على الدين الحق، فقبلهم اللّه سبحانه في ملكوته، وتقبل أعمالهم الطيبة، وتجاوز عن سيئاتهم. وأما من كانوا يعبدون غير اللّه، فقد ضل عنهم آلهتهم، وتركوهم ليلقوا مصيرهم الشئوم.


{إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}.
مناسبة قصة قارون هنا، هى أن الآيات السابقة كانت تعرض مواقف المشركين من رسول اللّه، ومن الكتاب الذي بين يديه، وقد جمعت بينهم وبين فرعون، وجعلت منه ومنهم جبهة واحدة، تمثل الكفر، والعناد، والعتوّ، والفساد في الأرض.
وقصة قارون تطلع على هؤلاء المشركين من الماضي البعيد بصورة يرون في بيئتهم من يمشى بينهم في إهابها، وكأنما هو قارون بعث من قبره! وذلك فيمن كان يعيش في مجتمعهم من أغنياء اليهود، مثل حيى بن أحطب وغيره.
فالمشركون في صورتهم العامة، فراعين، في عتوهم وضلالهم، تتحرك في كيانهم أجسام غريبة، من اليهود، الذين جمعوا أموالا كثيرة، بأساليب لا يحسنها غيرهم.. وبهذا تكتمل المشابهة بين مجتمع المشركين، ومجتمع فرعون.. فكلا المجتمعين يتشكل من عنصر أصيل، وعنصر دخيل عليه.
وفي العنصر الأصيل كبر، وعناد، واستعلاء، وفي العنصر الدخيل انحلال، وفساد، وعفن.. وكلا المجتمعين، بعنصريه- الأصيل والدخيل- حرب على الحق والخير.
وقوله تعالى: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}.
هو استحضار لأهل الكتاب في شخص اليهود، ثم استدعاء لليهود في شخص أغنيائهم، وأصحاب الثراء فيهم، ممن هم على شاكلة أبيهم قارون.. وهذا الاستدعاء هو نذير لليهود من قبل أن يلقاهم الرسول لقاء مباشرا، حتى يأخذوا حذرهم لأنفسهم من أن يقفوا من قومهم موقف قارون في أجدادهم، حين يدعوهم الرسول إلى اللّه، فيتصدّى منهم قارون أو أكثر من قارون لهذه الدعوة.. فإنهم إن فعلوا أخذهم اللّه كما أخذ قارون من قبل.
ففى قوله تعالى: {فَبَغى عَلَيْهِمْ} أي خرج من محيطهم، وانحاز إلى فرعون، ونسى أنه على دين يلتقى مع هذا الدين الذي جاء به موسى.. وقد جاءت الأيام بصدق هذه الصورة، فيما كان بين أغنياء اليهود من تحالف بينهم وبين المشركين على محاربة الدعوة إلى الإسلام، سرا وجهرا.. فكان أن أخذهم اللّه بما أخذ به المشركين، كما أخذ اللّه قارون بما أخذ به فرعون، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها.. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [26- 27: الأحزاب]- وقوله تعالى: {وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}:
الفاء هنا للتعقيب، بمعنى أن هذا الذي آتاه اللّه قارون من كنوز، قد كان بعد أن بغى على قومه، وانحاز إلى فرعون، وفي ذلك استدراج من اللّه سبحانه وتعالى له، حتى يغرق في الغى والبغي، كما يقول سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ.. بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [55- 56 المؤمنون].
و{ما} في قوله تعالى: {ما إِنَّ} اسم موصول، وهو وصلته صفة للكنوز.. أي أن اللّه سبحانه وتعالى آتاه من المال الذي مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة.
والمفاتح، جمع مفتح، مثل كوكب.
والمراد بالمفاتح هنا: المداخل التي يدخل منها على هذا المال.. وهو لكثرته ونفاسته قد شددت الحراسة عليه.
وفي إسناد، الفعل إلى المفاتح، وهي المداخل إلى هذه الأموال، وجعلها هى التي تدوء بالعصبة أولى القوة- إشارة إلى ما قام على هذه الكنوز من قوى شديدة ذات بأس من الخزنة والحرس، حتى إنها لتنوء، وتضعف عن حمل هذه القوى القائمة عليها.. يقال: ناء بالحمل: إذا ضعف عن حمله، لثقله عليه.. وكذلك المداخل التي يدخل منها على هذا المال الكثير، تنوء بما عليها من حراس أقوياء.
وقوله تعالى: {إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}.
المراد بالفرح هنا: فرح الزهو والعجب والخيلاء.. فهو فرح متولد من تلك المشاعر التي تحرك في صاحبها دوافع البغي والتسلط.. أما الفرح، على إطلاقه، فليس بالمكروه، إذا كان عن قلب يجد لفضل اللّه وإحسانه موقعا منه، كما يقول سبحانه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [4- 5: الروم].
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} إشارة إلى أن الفرح المكروه، هو الفرح المبالغ فيه، والذي يخلى نفس صاحبه من كل شعور بقدرة اللّه، وبما لهذه القدرة من تصريف في شئون العباد، وتقلّب أحوالهم.. فلو ذكر المرء هذا في حال من أحوال فرحه، لتخفف كثيرا مما هو فيه من فرح، ولعلم أنها حال لا تدوم، وأنه إذا لم يكن في مجريات الأحداث ما يقطع هذه الفرحة، قطعها الموت، وما وراء الموت من حساب وجزاء، والفرح صبغة مبالغة من فرح.
قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
هذا مما وصّى به أهل الصلاح والتقوى من قوم موسى، قارون، هذا الذي استبد به العجب بماله، واستغواه الغى، بما ضمت عليه يده من سلطان بهذا المال.
فهم يدعونه إلى أن يسلك بهذا المال، الطريق الذي تحمد عواقبه، وتتم به تلك النعمة.
وقد نصحوا له ألا يستبد به الفرح بما ملك، وفي ذلك إيقاظ له من سكرة هذا المال، حتى إذا صحا، دعوه إلى ما ينبغى أن يسوس به ماله هذا، فيطلب به رضا اللّه، ويقدم منه ما ينفعه في الآخرة، ويأخذ منه ما يصلح به شئون دنياه، فيجمع بذلك خير الدنيا والآخرة جميعا.. وأن يحسن وينفق في وجوه الخير، مثل ما أحسن اللّه إليه، فيلقى إحسان اللّه بالإحسان إلى عباد للّه، فذلك هو زكاة هذه النعمة، وألا يتخذ من هذا المال أداة للفساد والإفساد في الأرض، والإضرار بالناس، وهضم مالهم من حقوق.. إن اللّه لا يحب المفسدين.
قوله تعالى: {قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي.. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} وقد استقبل قارون هذه الدعوة الحكيمة الرشيدة بالاستخفاف والتحدي، شأنه في هذا شأن من غطى على بصره ما امتلأ به كيانه من أشر وبطر، فجعل كل نصح يلقى إليه، دبر أذنه، ومن وراء ظهره.
وقوله تعالى: {قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي}.
إنه ينكر أن يكون للّه شيء فيما بين يديه من هذا المال الغمر.. إنه قد توصل إليه بحسن تدبيره، وجمعه بجهده وكده.
والعلم الذي أوتيه قارون ليس العلم الذي تحصله العقول، أو تستشفه البصائر، وإنما هو علم تنضح به الطبائع الخبيثة، والنفوس المريضة، من نفاق، ومداهنة، وانّجار بالذمم والضمائر، مما يحسنه اليهود، ويأخذون به مكان الأستاذية للناس جميعا.. وقد كان قارون في هذا العلم أستاذا لهؤلاء الأساتذة.. فجمع هذا المال الوفير الذي كان موضع حسد من كثير من قومه، كما كان آفة مهلكة له.
وليس يعترض على هذا بقوله تعالى: {وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ} إذ قد يفهم من هذا أن اللّه سبحانه وقد آتاه هذا المال، إنما آتاه إياه هبة، وابتدأه به إحسانا، فهو- والأمر كذلك- لم يحصّل هذا المال بشىء من تلك الوسائل الخسيسة الفاسدة، خاصة، وأن القرآن الكريم قد استعمل هذا الفعل مسندا إلى اللّه في مواضع كثيرة، وكلّها في مقام الفضل والإحسان، وأجلّها ما كان من إيتاء اللّه سبحانه وتعالى الكتاب والحكم والنبوة، للكثير ممن اصطفى من عباده.
وردّنا على هذا:
أولا: أن هذا لا يدفع أن يكون اللّه سبحانه وتعالى قد ابتدأ قارون بهذه النعمة، وأولاه هذا الإحسان.. ثم كان منه هذا الكفران باللّه، والجحود لفضله عليه، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ} [175- 176: الأعراف].
وثانيا: أن قول قارون: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} هو دعوى يدّعيها، ويبرر بها إضافة هذا المال إلى كسبه بوسائله، تلك الوسائل التي أشرنا إليها.. فهو- في تقديره- كان يحسب أن هذه الوسائل هي التي جلبت له هذا الثراء العريض، وهذه الوسائل- في تقديره- هى علم يحسنه وحده، ولا يحسنه غيره.. وهذا لا يمنع من أن تكون تلك الوسائل في ذاتها غير فاعلة، وإن بدا في الظاهر أنها هي التي يردّ إليها هذا الذي اجتمع في يديه من مال.
وأن هناك أسبابا خفية، هى التي جلبت له هذا الثراء، على غير تقدير منه.
وثالثا: قد يسند الإيتاء إلى اللّه سبحانه وتعالى للنقمة في ثوب النعمة، كما قال تعالى: {وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها} [59: الإسراء].
فالذى آتاه اللّه ثمود هنا- وهو الناقة- كان بلاء وهلاكا.
ورابعا: أن إسناد هذا الفعل للّه، إنما هو من مقولة القوم، الذين ينظرون إلى هذا المال الذي اجتمع ليد قارون كما ينظرون إلى كل شيء يناله الإنسان في هذه الدنيا، وهو أنه من عند اللّه.. إذ كان القوم مؤمنين باللّه، وقولهم هذا هو على ما جرت به عادة المؤمنين، من إضافة كل شيء إلى اللّه، سواء أكان خيرا أو شرّا.. أما النعم الخالصة التي يسوقها اللّه إلى المصطفين من عباده، فإنها تحمل مع هذا الفعل مسندا إلى اللّه، بإخبار منه سبحانه، كما يقول سبحانه: {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} [55: الإسراء]، {وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ} [87: البقرة].
أمّا قارون فقد أتاه اللّه هذا المال الوفير، جزاء بغيه، فكان نقمة في صورة نعمة.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} هو رد على هذا الادعاء العريض الكاذب الذي يدعيه قارون.. وأنه لو كانت له قوة ذاتية، وكان له من العلم الذاتي ما جمع به هذا المال، لكان لهذه القوة وهذا العلم أن يحفظا عليه ما جمع، فلا يذهب من يده، بل كان لهذه القوة وهذا العلم أن يحفظا عليه ما جمع، فلا يذهب من يده، بل كان لهذه القوة وهذا العلم، أن يحفظا عليه وجوده هو نفسه!! فهل تنفعه هذه القوة، وهل يجديه هذا العلم، إذا جاءه بأس اللّه؟ ألا فلينظر إلى من كان قبله من الأمم السابقة، ممن هم أشد منه قوة وأكثر جمعا.. أين هم الآن؟ وأين ما جمعوا من مال وما اجتمع لهم من قوة؟ هل أغنى ذلك عنهم من بأس اللّه من شيء لقد؟ هلكوا، وهلك ما كان لهم.
وفي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} رد على هذا العلم الذي يدعيه، وأنه علم هو الجهل بعينه، وأنه لو كان علما حقا، لعلم به ما حل بالظالمين المفسدين في كل أمة وكل جيل ولما سار على دربهم، وسلك طريقهم..!
وقوله تعالى: {وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}.
أي أن اللّه سبحانه إذا أخذ المجرمين بجرمهم في الدنيا، وأنزل بهم البلاء، وسلط عليهم النقم- أخذهم بغتة، على غير توقع منهم، حيث لا يسألون عما هم فيه من ضلال، ولا يدعون إلى موقف المحاسبة في هذه الدنيا.. فهذا موقف له يومه، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
إنها الفتنة تتحرك في هذا الموكب، الذي تحتشد فيه زخارف الحياة، حيث يخرج قارون في موكبه الحاشد، وقد ظهر فيه سيدا عظيما في زى أصحاب الملك والسلطان، وبين يديه ومن خلفه الجنود والأعوان.. فتحركت مع هذا الموكب أهواء النفوس وشهواتها، وتطايرت من العيون قطرات الاشتهاء والتمني، فقال الذين همهم هذه الدنيا وحدها، وليس للآخرة نصيب يشغل به تفكيرهم، ويصرف إليه همهم- قالوا: {يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ.. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
وهكذا تعظم الدنيا في عين طلابها، فإن فاتهم شيء منها مما وقع لغيرهم، تقطعت نفوسهم أسى وحسرة على حظهم المنكود، ذلك، ولو لم يكن ينقصهم شيء مما يحتاجون إليه لحفظ حياتهم، من طعام، وكساء، ومأوى.. وإنما هو الغيرة والتنافس في متاع الدنيا.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ}.
وهذه نظرة أهل الحق والعلم إلى الدنيا.. إنها نظرة قائمة على حساب سليم مع الحياة الدنيا ومتاعها.. فهى عندهم ظل زائل، ومتاع قليل، وحسب الإنسان منها أن يأخذ في حمد ورضى، ما قسم اللّه له، وأن يطلب الرزق من وجوه سليمة مستقيمة، وأن يؤدى حق اللّه والعباد فيما آتاه اللّه.. ثم لا يصرفه شيء من هذا عن طلب الآخرة، والإعداد لها، وابتغاء مرضاة اللّه بالأعمال الصالحة.
فذلك هو خير مما لو اجتمعت الدنيا كلها للإنسان، ثم لم يكن له نصيب في الآخرة.
وقوله تعالى: {وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ} أي لا يلقيّ هذه المقولة، ولا يتقبل هذه الدعوة الطيبة إلى ابتغاء ثواب اللّه- إلا الصابرون، الذين يصبرون على بأساء الحياة الدنيا وضرائها، ابتغاء ما يلقون من جزاء حسن في الآخرة.
فمن لم يكن من الصابرين، فإنه لا يؤدى حقا، ولا يصبر على حق، بل يستعمل كل ماله في هذه الدنيا، ويستهلكه في يومه، غير ملتفت إلى غده.. إن الطاعات تكاليف وأعباء، لا تقع موقع القبول والرضا إلا من نفوس صابرة، تغرس اليوم، لتجنى ثمار غرسها غدا.
قوله تعالى: {فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ}.
وهكذا يدور الزمن دورته، وينخرم حساب قارون مع دنياه هذه، وما جمع فيها، وإذا هو وما جمع في حفرة عميقة في الأرض، قد فغرت فاها، وابتلعته في غمضة عين، كما يبتلع الحيوان فريسته.. وهكذا تطوى صفحة هذا الضلال المتحرك، وتذهب معالمه، دون أن يكون له من ينصره من بأس اللّه ويدفع عنه هذا المصير، فقد ذهب عنه سلطانه، ولم يغن عنه ماله! قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}.
وينتقل المشهد من قارون وموكبه، وداره وحشمه وماله، إلى تلك العيون التي كانت متعلقة بهذا الموكب وما يجر وراءه، وإذا بها شاخصة في ذهول مما حدث؟ أين قارون الذي تعلقت بأذيال موكبه أمانيّ القوم؟ وأين كنوزه وأمواله، وقصوره؟ لا شيء من هذا.. لقد اختفى كل شيء في لحظة خاطفة، كما يختفى السابح في الماء وقد احتوته دوامة عاتية، فغرق، وهوى إلى القاع!! أهكذا الدنيا إذن؟ وأ هكذا تصاريف القدر فيها؟ {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ}؟ إذن، فالأمر للّه وحده، يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدره ويقبضه عمن يشاء، بعلم، وحكمة وتدبير.
وإذن، فقد كان من فضل اللّه علينا أنه لم يستجب لأمنياتنا، ولم يؤتنا مثل ما أوتى قارون.. إنه لو فعل لكان مصيرنا كمصيره، ولخسف بنا وبدورنا الأرض، كما خسف به وبداره الأرض.. {لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا}.
إن أشد الناس فقرا فينا، لهو خير من قارون وكنوزه.. وهل يرضى أحد من هؤلاء الذين شهدوا هذا المشهد اليوم أن يكونوا قارون الذي كان بالأمس؟
{وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}.
وإذن، فالحكم القاطع الذي يمليه علينا هذا المشهد، هو أنه لا فلاح للكافرين أبدا، وإن كثرت أموالهم، وملكوا الدنيا في أيديهم.. إنهم هم الخاسرون خسرانا مبينا، في الدنيا والآخرة جميعا.
وكلمة (وى) أداة تعجب وانبهار، يلقى بها المرء مواقف العجب والدهش.
قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
هو تعقيب على هذه القصة، التي كان مدار حركتها قائما على هذه الدنيا، وقد انتهى المشهد، وقد تحطم هذا الدولاب، وتحطم كل ما احتواه.. وإذن فلا التفات إلى هذا الحطام، ولا اشتغال به.. وإذن فإلام تتلفت النفوس؟ وبم تشتغل القلوب؟ هذه هي الدار الآخرة.. الدار الباقية التي ينبغى أن يلتفت إليها، ويشتغل بها.
ولكن لمن هذه الدار؟ ومن يصلح للاتجاه إليها، والتعامل معها؟ {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً} فهؤلاء هم أهلها، حيث لا تنصرف إرادتهم إلى الدنيا، وإلى طلب العلو والإفساد فيها.. إن إرادتهم متجهة إلى الآخرة، وإن كانت الدنيا معبرهم إليها، وطريقهم عليها.
{وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي العاقبة الحسنة الطيبة لأهل التقوى، الذين يريدون اللّه والدار الآخرة.


{مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}.
التفسير:
قوله تعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
هو إعلان عام للمؤمنين والكافرين.. للمصلحين والمفسدين.. للذين يعلمون الصالحات، والذين يقترفون السيئات.. إن لكل حسابه وجزاءه.
أما أهل الإحسان، فيجزون بإحسانهم إحسانا مضاعفا.. فضلا من اللّه وكرما.. وأما أهل السوء، فيجزون بسوئهم سواء مثله، حقا من اللّه وعدلا.
وقد أفرد الضمير في مقام الإحسان، حيث تختلف منازل المحسنين، فيما يجزون به على إحسانهم.. الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، واللّه يضاعف لمن يشاء.. فهذا مقام الفضل، ينزل فيه اللّه عباده منازلهم من فضله ورحمته.
أما أهل السوء، فهم على حال واحدة.. السيئة بالسيئة ولا زيادة.. فهم في مقام العدل. الذي يقتضى المساواة.. ولهذا جمع ضمير أهل السوء.
{فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
فرض القرآن على الرسول، هو حمله عليه حملا كاملا.. حيث يتلقاه من ربه، ويستقيم على كل آية منه، ويبلغه إلى الناس، ويجاهدهم به.
والمعاد الذي يرد إليه الرسول، هو لقاء ربه، وتلقى ما وعده اللّه به من رضا ورضوان.
وإذن فهذا القرآن المفروض على الرسول الكريم، هو الرفيق الذي يعيش مع الرسول في الدنيا، ويلقى اللّه به في الآخرة، حيث يجىء ومعه المحصول الوفير، من مغارس الإيمان التي غرسها القرآن في الأرض، فكان منها هذه الأمة المسلمة، التي تأخذ مكانها في المحشر، وقد رفع على رأسها علم التوحيد! وفي هذا يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} [71: الإسراء] ويقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء].
وقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} هو إلفات إلى هذا القرآن الذي فرض على الرسول، وهو الهدى، الذي من اتبعه اهتدى ورشد، ومن خالفه ضل وغوى.
قوله تعالى: {وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ}.
أي أن هذا القرآن الذي فرضه اللّه عليك- أيها النبي- لم يكن عن أمنية تمنيتها، ولا عن سعى سعيت له.. فذلك مما لا يحصل بالسعي، ولا يستدعى بالأمانى.. وإنما هو رحمة خالصة من عند اللّه، يختص بها من يشاء من عباده، ويضعها حسب ما يقضى به علمه في خلقه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [124: الأنعام].
وقوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} هو بدل من {أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ} وهو في تأويل مصدر مفعول به لترجو.. والمعنى: ما كنت ترجو كتابا يلقى إليك من ربك، ولكن كنت نرجو رحمة منه.. وها قد جاءتك الرحمة عامة شاملة من ربك في اصطفائك للرسالة، ولكتابها الكريم.
{إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} [87: الإسراء].
وقوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ}.
هو تعقيب على هذه؟؟؟ العظيمة، وتلك النعمة الكبرى، وهذه الرحمة العامة الشاملة، التي ينبغى أن يأخذ كل إنسان حظه منها، إذا هو التمسها، ودخل في حماها.. وهؤلاء هم المؤمنون.. أما الكافرون فلا نصيب لهم منها.
وإذن، فالذى ينبغى أن يكون عليه شأن الرسول مع هذه الرحمة الشاملة التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى بين يديه- هو أن يجعلها قوة تظاهر المؤمنين، وتقوّى جبهتهم، إزاء الكافرين والمشركين وأهل الضلال جميعا، لأنها قوة من قوى الحق، ومن شأنها أن تخلص لأهل الحق وحدهم.
والنهى الموجه للنبى في قوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ} هو دعوة للنبى إلى اليأس من هؤلاء المشركين من قومه، الذين قال اللّه فيهم:
{أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [41: المائدة] وقال سبحانه:
{إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} [37: النحل] ذلك أن وقوف النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- هذا الوقوف الطويل مع المشركين المعاندين من قومه، طمعا في إيمانهم، هو على حساب المؤمنين، أو الذين يستجيبون للإيمان، حيث تلك هي المواطن الصالحة للغرس، والإنبات والإثمار، وهي المواطن التي ينبغى أن يوجه الرسول إليها كلّ جهده.. وقد عاتب اللّه سبحانه وتعالى النبي الكريم في ابن أم مكتوم الأعمى، المؤمن، الذي جاء يستزيد من الرسول إيمانا، ويطلب هدى، والرسول في لقاء مع بعض وجوه القوم، من المشركين، وفي جدل حاد، يرجو الرسول من ورائه أن تلين قلوب الجماعة، وتدخل في دين اللّه- فقال تعالى: معاتبا لرسوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ}.
(1- 11. عبس) وقد دخل موسى عليه السلام في تجربة كتلك التجربة، حين أخذته عاطفة العصبية لقومه، وما كانوا يلقون من ظلم على يد فرعون وقومه.. وقد تمثل له ذلك فيما وقع بين المصري والإسرائيلى، وقد انتصر موسى للإسرائيلى، على المصري.. فلما خرج من تلك التجربة، استشعر الندم، واستغفر ربه، ونذر نعمة القوة التي في كيانه، أن تكون دائما للحق، ومع الحق حيث كان، فقال: {رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}.
ولعل هذا هو بعض السر في الجمع بين هاتين الآيتين في هذه السورة.
قوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
هو تحذير للنبى من هؤلاء المشركين من قومه، وذوى قرابته، الذين يدعونه إلى أن يدع ما هو فيه، حتى لا يكون بموقفه هذا سببا في تمزيق وحدة قومه، وإلقاء العداوة بينهم، حتى يقتل بعضهم بعضا.. فهذه قريش لا تريد الدخول في دينه، وهؤلاء أهله الأدنون يأبون أن يتخلّوا عنه، ويتركوه لقريش ترميه بالأذى.. وهذا عمه أبو طالب يدعوه إلى أن يرفق به وبأهله، وألا يحملهم على مواجهة قريش، فيقول له لرسول الكريم قولته الخالدة تلك: «واللّه يا عم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه» وقوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ}.
هذا فوق أنه تحذير للنبيّ من أن تغلبه عاطفة الحرص على أهله أن يصيبهم سوء من أجل انتصارهم لعصبيتهم فيه- هو تثبيت لقلب النبيّ، وترسيخ لقدمه في القيام على دعوته، وألا يلفته شيء عنها.. فلتذهب الدنيا كلها، ولتبق راية الحقّ قائمة في يده.
وفي قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} دعوة إلى قطع كل رابطة من قرابة أو نسب، وإلى التضحية بكل عاطفة بينه وبين أهله، إذا كان في ذلك جور على دعوته، وتحيّف على شيء من عزمه وإرادته في القيام بتبليغها، والجهاد بها. فهو في تلك الحال ليس من أهله هؤلاء المشركين.. إن أهله وقرابته هم المؤمنون: {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [91: النمل] فالمؤمنون هم أهل الرسول، وهم قرابته.
قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بهذه الآية تختم سورة القصص.
وهي تعزل النبيّ عزلا تاما عن قومه المشركين، الذين يدعون مع اللّه آلهة أخرى.. فهو على طريق، وهم على طريق.. هو له دينه، وهم لهم دينهم، فلا جاممة تجمع بينه وبينهم إن لم يجمعهم الاجتماع على دين اللّه، وعلى إخلاص العبودية له وحده، لا إله إلا هو.
فإذا سلم للمرء دينه، وخسر كل شىء، فهو الذي ربح كل شيء ولم يخسر شيئا.. لأن كلّ شيء هالك وإلى زوال، ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام.
وإذن فلا حساب لأهل، أو مال، أو ولد، مع الدّين الذي يشد الإنسان إلى اللّه، ويقيمه على ولاء له.. فالأهل والمال، والولد، وكل شيء هالك، فيصبح الإنسان أو يمسى ولا شيء له، أو معه من هذا، ثم يلتفت فلا يجد إلا ما ادخر عند اللّه من إيمان وتقوى.. {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا} [46: الكهف]- وفي قوله تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هو إلفات إلى اللّه سبحانه وتعالى، وإلى أنه جلّ شأنه المتفرّد بالبقاء، وبالحكم بين العباد، يوم يرجعون إليه.. فالذين كانوا على ولاء مع اللّه، يدخلون في ظلّ هذا الولاء، فيجدون الأمن والسلام، والذين عادوا اللّه وحادّوه، وكفروا به وبرسله، يظلمون في العراء، بعيدين عن هذا الظل الكريم الرحيم، {أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4